لحضرة المجاهد التونسي الكبير السيد محبي الدين القليبي
تمهيد:
لم يكن النزاع الأول الذي حدث بين المسلمين في فجر التاريخ الإسلامي حسبما يبدو لي في حقيقته إلا نزاعاً سياسياً يتعلق بنظام الدولة: نوع الحكومة. شخصية الحكام. أسلوب الحكم. سياسة المحكومين. فلقد ذهب كل فريق مذهباً خاصاً به في كل ما تقدم، فكانت المذاهب السياسية في نظام الدولة، ولم يكن يتبع في بداية الأمر عقائد خاصة أو نظريات لكل فريق في فقه المعاملات والعبادات وإنما حدث ذلك عند ما تحمس كل فريق لمذهبه السياسي، وأراد أن يكسوه صبغة دينية أدت إلى التناحر والحروب بين الطوائف الإسلامية، ولولا ذلك لكانت المذاهب لا تخرج عن اختلاف نظريات في سياسة الدولة وتباين اتجاهات في قانون علاقات الأفراد، ولكفى المسلمون أنفسهم استباحة بعضهم أعراض ودماء بعض ولما تفرقوا خلافاً لما أمر الله، ولما تخطفهم الناس واستدلوهم عقاباً من الله.
وإذا كان الإختلاف في الرأي ظاهرة لازمة لكل مجتمع قام على عقيدة وسخت وامتد نفوذها، فاقتضى هذا الإمتداد والإنتشار قيام دولة، وإنشاء حكومة لحماية العقيدة وحفظ النظام الذي جاءت به لذلك المجتمع، فإن المهاترات الكلامية، والحروب المسلحة بعدها غير لازمة بين معتنقي تلك العقيدة إذا ما اختلفت آراءهم في الفروع والجزئيات، وأكثر ما ينشأ ذلك عن تدخل العامة والدهماء أو من هم في منزلتهم فيما هو من خصائص الخاصة والعلماء إذ بذلك تنقلب الأوضاع
/ صفحة 199 /
وينتكس السير ولا منجاة من ذلك إلا بإرجاع الأمور إلى أهلها، والضرب على أيدي المترامين عليها والرجوع إلى الله ورسوله فيها.
فرق ومذاهب:
اعتاد المؤرخون أن يطلقوا على المختلفين في الأصول فرقاً، وعلى المختلفين في الفروع (العبادات والأحوال الشخصية) مذاهب، وقد عرفت شمال إفريقيا منذ حدوث الإختلاف الأول في الإسلام من الفرق ـ فرقة الخوارج ـ جاء بها عكاشة الصفري إلى تونس ودعى إليه بين البربر من سكانها، فكانوا أكثر معتنقي فكرته، جمعهم حوله، وثار بهم على عمال الأمويين في شمال أفريقيا، سنة 124 هـ. وجاء على أثره عبد الرحمن بن حبيب واستفحل أمره لأن الدولة الأموية كانت مشغولة بظهور الدولة العباسية بالمشرق، واستقر هذا المذهب الذي يكاد يكون عهده سلسلة متنابعة الحلقات من الحروب والثورات لاثبات مثله العليا في نظام الحكم. وقد تمكن من ذلك في فترات وإنشأ دولاً وحكومات لعل آخرها دولة بني رستم في تيهوت من بلاد الجزائز، واستقر هذا المذهب وتبعته فروعه كالأزرارقة والعجاردة والصفرية والاباظية، وهم الذين لا يزالون إلى اليوم وشمال إفريقا، يعيشون جماعات تتبع نظاماً محكماً يشبه الدولة التي يراها المذهب ويحافظون على آرائهم في الأصول والفروع في نظام الدولة والجماعة، وعلاقة الفرد بالفرد واشتهر من بينهم علماء زخرت المكتبات بمؤلفاتهم ذات القيمة العلمية في فروع المذهب وأصوله وفيما وراء العقيدة المذهبية، ولولا التعصب لا تنفع المسلمون به في كثير من الدراسات إلا أنهم حرموا منها كما حرموا من غيرها من كتب المذاهب الأخرى، خصوصاً التي لا علاقة لها بمسائل الخلاف، ومعتنقو هذا المذهب يسكنون وادي مزاب من جنوب الجزائر وجزيرة جربة من مملكة تونس وجبال نفوسه ويفرن وفساطو وغيرها من مملكة طرابلس، ولهم صلات وثيقة بأباطني عمان وزنجيار، وفي داخل عمان تقوم الحكومة العامله المستقلة التي يقرها المذهب ويعتبر أرضها دار إسلام. ولأتباع المذهب مدارس يدرس فيها علماؤهم
/ صفحة 200 /
قواعد المذهب وأصوله، وتأتي بعثات منهم إلي تونس والجزائر ومراكش، وأحياناً إلى مصر لدرس العربية والتفسير والأصول، أما العقائد والفقه فهم يدرسونها على شيوخهم، ولا تكاد تحس بأي فرق ولا تشعر بأقل وحشة بينهم وبين أصحاب المذاهب الأخرى في شمال إفريقيا، لأن أخوة الإسلام القوية في المغرب تطغى على كل شيء، وكثيراً ما يحصل النقاش بينهم في مسائل الخلاف ولكن بكل أدب وتسامح، وفي الكفاح الوطيء يشتركون مع إخوانهم جنباً لجبن.
المذهب المالكي:
عند ما كان النزاع بني الخوارج وأهل السنة والشيعة في الأصول أو السياسة العليا، لم تكن قد ظهرت مذاهب الفروع رغم ارتحال بعض العلماء المشهورين من أهل السنة التونسيين إلى المشرق لطلب العلم، ورواية الحديث بالخصوص كعبد الرحمن بن زياد، وأسد بن الفرات، فإن المذهب المالكي لم يبرز كمذهب إلا على يد الإمام سحنون بن سعيد التنوخي في أواخر القرن الثاني 190هـ، لما ضبط هذا المذهب في كتابه (المدونة الكبرى) ومذهب الإمام مالك هو المذهب المنتشر انتشاراً عظيماً في بلاد المغرب ـ ليبيا وتونس والجزائر ومراكش ـ وحتى سوادين أواسط وغربي أفريقيا، وبلغت تآليف علماء هذا المذهب في فروعه العدد العظيم، طبع منها ما طبع وبقي الكثير منها مخطوطاً نادراً يتباهى العلماء بحيازته في خزائهم الخاصة، ويدرس مع العلوم الدنية واللغوية في الكليات الشهيرة في هذه الأقطار، فأهل الصحاري والسوادين يدرسون في تنبكتو وشنجيط وفي مراكش في جامع القرويبن، وفي الجزائر معهد بن باديس أخيراً، وفي تونس جامع الزيتونة، وفي ليبيا جامع الباشا.
الشيعة:
نتبع في ذكر المذاهب تاريخ وحودها، فإذا كان مذهب الخوارج وجد سنة 134هـ، ومذهب ملك من أهل السنة حوالي سنة 191هـ، فإن مذهب الشيعة لم يظهر في شمال إفريقيا إلا في أواخر القرن الثالث وبداية الرابع.
/ صفحة 201 /
ذهب جماعة من قبيلة كمتامة البربرية إلى الحج، فلقيهم داعية الفاطميين باليمن أبو عبد الله الصنعاني، فتأثروا بغزارة علمه، وفصاحة لسانه، وبعد نظره، فدعوه إلى بلادهم المغرب فرحل معهم، واجتمع عليه البربر من كل مكان، فأظهر دعوته لآل البيت فيهم فتأثروا بها، وأخذوا على أنفسهم الجهاد في سبيلها، فنظمهم وسار بهم لفتح طريق الدولة الجديدة، وقامت هذه الدولة العبيدية كما هو مبسوط في التاريخ على يد عبيد الله المهدي الذي بني لها عاصمة جديدة بالقطر التونسي أسماها المهدية، لا تزال إلى الآن من عواصم الساحل التونسي، وتلت دولة العبيديين الدولة الفاطمية التي ركزت المذهب الشيعي في تونس وكثير من بلاد شمال إفريقيا، ونشاهدها أن البربر كانوا في المائة الثانية عماد مذهب الخوارج، كما كانوا في أواخر المائة الثالثة عماد مذهب الشيعة، ولا نقول إنهم وحدهم قد اعتقوا هذه المذاهب، بل كانوا هم الأكثرية الساحقة فيها، وعصب حروبها، ولعل ذلك يرجع إلى حداثة عهدهم بالإسلام، وإلى تخوفهم من استيلاء العرب القادمين علي النفوذ والسلطان، فيصبحوا محكومين للغير كما كانوا في العهود التي قبل الإسلام، فأرادوا أن يعتصموا بهذه المذاهب، لتكون الدولة بأيديهم، وقد زال هذا الشعوب بتقادم العهد، وخوصاً لما لمسوا بأيدهم أن الإسلام إنما يراعي الأصلح، ويقدم الأتقى، ولا يعترف إلا بالقيم الأخلاقية دون نظر إلى العرق أو اللون أو المنزلة الإجتماعية، فقد أسس البربر كما أسس غيرهم من الأجناس التي دخلت في الإسلام، دولاً كانوا هم عمادها في عصور مختلفة دون أن يتحرج الآخرون، ولذلك نجد الآن برابرة المغرب الأقصى وأكثرية برابرة الجزائر وتونس وطرابلس على المذهب المالكي، ولا تكاد تشعر بين البربر والعرب بفروق، إذ العقيدة الإسلامية طغت على كل شيء رغم تمسك البربر بلغتهم وأحرفها التي لا تزال عند البعض منهم، واحتفاظهم بشيء من التقاليد التي كانت لهم من قبل.
بقي المذهب الشيعي الفاطمي سائداً في تونس، وحكومة الشيعة قائمة فيها إلى أوائل القرن الخامس 439هـ، حيث طغت على الدولة الفتن، وعصفت بأتباع المذهب الحروب، فانكمش ثم اختفى، إلا أنه ترك مظاهره وآثاره باقية إلى
/ صفحة 202 /
اليوم في بلد من بلاد المغرب، ففي مراكش لا يزال لآل البيت (الأشراف) عند السكان تقديسهم واحترامهم إلى أبعد حد، يزورونهم أفراداً وجماعات في مواسم مختلفة، يلمسون رضاهم وصالح دعواتهم، وحسن توجيهاتهم، يقبلون أيديهم تبركا، ويقدمون لهم الهدايا القيمة والأموال الوفيرة، ويبذل رجال القبائل وعلى الأخص البربرية منها كالنوارق وتوات لتزويج بناتهم من أبناء الأشراف كي يحصل لهم الإرتباط بالنسب الشريف، وفي قبائل النوارق (الملثمين) إلى الآن تشاهد الأشراف منهم يضعون النقاب الأسود على وجوههم، أما غيرهم فالنقاب الأزرق وللعبيد النقاب الأبيض.
أما في تونس فإن شهر المحرم شهر حزن لا تقام فيه الأفراح، ولا يأخذ النساء زينتهن، ويوم عاشوراء عندهم يوم حزن شديد، ولآل البيت في تونس مكانتهم كذلك، وإمامة الجامع الأعظم تكاد تنحصر فيهم رغم وجود من هو أعظم منهم، ولعل من بقية عهد الفاطميين الطرق الصوفية التي نشاهد في أسانديها كلها على اختلاف شيوخها المنسوبة إليهم، أنها تجمع كلها في الإمام جعفر الصادق والإمام محمد الباقر، وترتفع إلى الإمام علي كرم الله وجهه، ثم إلى مقام التصلية والتسليم، كما تجتمع شجرات الشرف في إدريس الأكبر ابن عبد الله الكامل ـ السبط ـ.
المذهب الحنفي:
أما مذهب أبي حنيفة النعمان فقد دخل إلى تونس وطرابلس والجزار عند دخول الأتراك إليها في أواخر القرن العاشر، ولا يزال مذهب من تناسل منهم إلى الآن، وهو مذهب العائلة المالكة في تونس.
أما في مراكش فلا يكاد يوجد أتباع لهذه المذهب، وتوجد في الجزائر وفي تونس محاكم شرعية لكل من المذهبين: المالكي والحنفي، وقد نبغ بين أتباع هذا المذهب علماء أعلام، ألفوا فيه مؤلفات قيمة، ويدرس هذا المذهب في تونس في جامع الزيتونة إلى الآن. أما بقية الفرق والمذاهب الإسلامية الأخرى، فإن تونس وشمال إفريقيا لا تعرفها إلا من المؤلفات.
تمهيد:
لم يكن النزاع الأول الذي حدث بين المسلمين في فجر التاريخ الإسلامي حسبما يبدو لي في حقيقته إلا نزاعاً سياسياً يتعلق بنظام الدولة: نوع الحكومة. شخصية الحكام. أسلوب الحكم. سياسة المحكومين. فلقد ذهب كل فريق مذهباً خاصاً به في كل ما تقدم، فكانت المذاهب السياسية في نظام الدولة، ولم يكن يتبع في بداية الأمر عقائد خاصة أو نظريات لكل فريق في فقه المعاملات والعبادات وإنما حدث ذلك عند ما تحمس كل فريق لمذهبه السياسي، وأراد أن يكسوه صبغة دينية أدت إلى التناحر والحروب بين الطوائف الإسلامية، ولولا ذلك لكانت المذاهب لا تخرج عن اختلاف نظريات في سياسة الدولة وتباين اتجاهات في قانون علاقات الأفراد، ولكفى المسلمون أنفسهم استباحة بعضهم أعراض ودماء بعض ولما تفرقوا خلافاً لما أمر الله، ولما تخطفهم الناس واستدلوهم عقاباً من الله.
وإذا كان الإختلاف في الرأي ظاهرة لازمة لكل مجتمع قام على عقيدة وسخت وامتد نفوذها، فاقتضى هذا الإمتداد والإنتشار قيام دولة، وإنشاء حكومة لحماية العقيدة وحفظ النظام الذي جاءت به لذلك المجتمع، فإن المهاترات الكلامية، والحروب المسلحة بعدها غير لازمة بين معتنقي تلك العقيدة إذا ما اختلفت آراءهم في الفروع والجزئيات، وأكثر ما ينشأ ذلك عن تدخل العامة والدهماء أو من هم في منزلتهم فيما هو من خصائص الخاصة والعلماء إذ بذلك تنقلب الأوضاع
/ صفحة 199 /
وينتكس السير ولا منجاة من ذلك إلا بإرجاع الأمور إلى أهلها، والضرب على أيدي المترامين عليها والرجوع إلى الله ورسوله فيها.
فرق ومذاهب:
اعتاد المؤرخون أن يطلقوا على المختلفين في الأصول فرقاً، وعلى المختلفين في الفروع (العبادات والأحوال الشخصية) مذاهب، وقد عرفت شمال إفريقيا منذ حدوث الإختلاف الأول في الإسلام من الفرق ـ فرقة الخوارج ـ جاء بها عكاشة الصفري إلى تونس ودعى إليه بين البربر من سكانها، فكانوا أكثر معتنقي فكرته، جمعهم حوله، وثار بهم على عمال الأمويين في شمال أفريقيا، سنة 124 هـ. وجاء على أثره عبد الرحمن بن حبيب واستفحل أمره لأن الدولة الأموية كانت مشغولة بظهور الدولة العباسية بالمشرق، واستقر هذا المذهب الذي يكاد يكون عهده سلسلة متنابعة الحلقات من الحروب والثورات لاثبات مثله العليا في نظام الحكم. وقد تمكن من ذلك في فترات وإنشأ دولاً وحكومات لعل آخرها دولة بني رستم في تيهوت من بلاد الجزائز، واستقر هذا المذهب وتبعته فروعه كالأزرارقة والعجاردة والصفرية والاباظية، وهم الذين لا يزالون إلى اليوم وشمال إفريقا، يعيشون جماعات تتبع نظاماً محكماً يشبه الدولة التي يراها المذهب ويحافظون على آرائهم في الأصول والفروع في نظام الدولة والجماعة، وعلاقة الفرد بالفرد واشتهر من بينهم علماء زخرت المكتبات بمؤلفاتهم ذات القيمة العلمية في فروع المذهب وأصوله وفيما وراء العقيدة المذهبية، ولولا التعصب لا تنفع المسلمون به في كثير من الدراسات إلا أنهم حرموا منها كما حرموا من غيرها من كتب المذاهب الأخرى، خصوصاً التي لا علاقة لها بمسائل الخلاف، ومعتنقو هذا المذهب يسكنون وادي مزاب من جنوب الجزائر وجزيرة جربة من مملكة تونس وجبال نفوسه ويفرن وفساطو وغيرها من مملكة طرابلس، ولهم صلات وثيقة بأباطني عمان وزنجيار، وفي داخل عمان تقوم الحكومة العامله المستقلة التي يقرها المذهب ويعتبر أرضها دار إسلام. ولأتباع المذهب مدارس يدرس فيها علماؤهم
/ صفحة 200 /
قواعد المذهب وأصوله، وتأتي بعثات منهم إلي تونس والجزائر ومراكش، وأحياناً إلى مصر لدرس العربية والتفسير والأصول، أما العقائد والفقه فهم يدرسونها على شيوخهم، ولا تكاد تحس بأي فرق ولا تشعر بأقل وحشة بينهم وبين أصحاب المذاهب الأخرى في شمال إفريقيا، لأن أخوة الإسلام القوية في المغرب تطغى على كل شيء، وكثيراً ما يحصل النقاش بينهم في مسائل الخلاف ولكن بكل أدب وتسامح، وفي الكفاح الوطيء يشتركون مع إخوانهم جنباً لجبن.
المذهب المالكي:
عند ما كان النزاع بني الخوارج وأهل السنة والشيعة في الأصول أو السياسة العليا، لم تكن قد ظهرت مذاهب الفروع رغم ارتحال بعض العلماء المشهورين من أهل السنة التونسيين إلى المشرق لطلب العلم، ورواية الحديث بالخصوص كعبد الرحمن بن زياد، وأسد بن الفرات، فإن المذهب المالكي لم يبرز كمذهب إلا على يد الإمام سحنون بن سعيد التنوخي في أواخر القرن الثاني 190هـ، لما ضبط هذا المذهب في كتابه (المدونة الكبرى) ومذهب الإمام مالك هو المذهب المنتشر انتشاراً عظيماً في بلاد المغرب ـ ليبيا وتونس والجزائر ومراكش ـ وحتى سوادين أواسط وغربي أفريقيا، وبلغت تآليف علماء هذا المذهب في فروعه العدد العظيم، طبع منها ما طبع وبقي الكثير منها مخطوطاً نادراً يتباهى العلماء بحيازته في خزائهم الخاصة، ويدرس مع العلوم الدنية واللغوية في الكليات الشهيرة في هذه الأقطار، فأهل الصحاري والسوادين يدرسون في تنبكتو وشنجيط وفي مراكش في جامع القرويبن، وفي الجزائر معهد بن باديس أخيراً، وفي تونس جامع الزيتونة، وفي ليبيا جامع الباشا.
الشيعة:
نتبع في ذكر المذاهب تاريخ وحودها، فإذا كان مذهب الخوارج وجد سنة 134هـ، ومذهب ملك من أهل السنة حوالي سنة 191هـ، فإن مذهب الشيعة لم يظهر في شمال إفريقيا إلا في أواخر القرن الثالث وبداية الرابع.
/ صفحة 201 /
ذهب جماعة من قبيلة كمتامة البربرية إلى الحج، فلقيهم داعية الفاطميين باليمن أبو عبد الله الصنعاني، فتأثروا بغزارة علمه، وفصاحة لسانه، وبعد نظره، فدعوه إلى بلادهم المغرب فرحل معهم، واجتمع عليه البربر من كل مكان، فأظهر دعوته لآل البيت فيهم فتأثروا بها، وأخذوا على أنفسهم الجهاد في سبيلها، فنظمهم وسار بهم لفتح طريق الدولة الجديدة، وقامت هذه الدولة العبيدية كما هو مبسوط في التاريخ على يد عبيد الله المهدي الذي بني لها عاصمة جديدة بالقطر التونسي أسماها المهدية، لا تزال إلى الآن من عواصم الساحل التونسي، وتلت دولة العبيديين الدولة الفاطمية التي ركزت المذهب الشيعي في تونس وكثير من بلاد شمال إفريقيا، ونشاهدها أن البربر كانوا في المائة الثانية عماد مذهب الخوارج، كما كانوا في أواخر المائة الثالثة عماد مذهب الشيعة، ولا نقول إنهم وحدهم قد اعتقوا هذه المذاهب، بل كانوا هم الأكثرية الساحقة فيها، وعصب حروبها، ولعل ذلك يرجع إلى حداثة عهدهم بالإسلام، وإلى تخوفهم من استيلاء العرب القادمين علي النفوذ والسلطان، فيصبحوا محكومين للغير كما كانوا في العهود التي قبل الإسلام، فأرادوا أن يعتصموا بهذه المذاهب، لتكون الدولة بأيديهم، وقد زال هذا الشعوب بتقادم العهد، وخوصاً لما لمسوا بأيدهم أن الإسلام إنما يراعي الأصلح، ويقدم الأتقى، ولا يعترف إلا بالقيم الأخلاقية دون نظر إلى العرق أو اللون أو المنزلة الإجتماعية، فقد أسس البربر كما أسس غيرهم من الأجناس التي دخلت في الإسلام، دولاً كانوا هم عمادها في عصور مختلفة دون أن يتحرج الآخرون، ولذلك نجد الآن برابرة المغرب الأقصى وأكثرية برابرة الجزائر وتونس وطرابلس على المذهب المالكي، ولا تكاد تشعر بين البربر والعرب بفروق، إذ العقيدة الإسلامية طغت على كل شيء رغم تمسك البربر بلغتهم وأحرفها التي لا تزال عند البعض منهم، واحتفاظهم بشيء من التقاليد التي كانت لهم من قبل.
بقي المذهب الشيعي الفاطمي سائداً في تونس، وحكومة الشيعة قائمة فيها إلى أوائل القرن الخامس 439هـ، حيث طغت على الدولة الفتن، وعصفت بأتباع المذهب الحروب، فانكمش ثم اختفى، إلا أنه ترك مظاهره وآثاره باقية إلى
/ صفحة 202 /
اليوم في بلد من بلاد المغرب، ففي مراكش لا يزال لآل البيت (الأشراف) عند السكان تقديسهم واحترامهم إلى أبعد حد، يزورونهم أفراداً وجماعات في مواسم مختلفة، يلمسون رضاهم وصالح دعواتهم، وحسن توجيهاتهم، يقبلون أيديهم تبركا، ويقدمون لهم الهدايا القيمة والأموال الوفيرة، ويبذل رجال القبائل وعلى الأخص البربرية منها كالنوارق وتوات لتزويج بناتهم من أبناء الأشراف كي يحصل لهم الإرتباط بالنسب الشريف، وفي قبائل النوارق (الملثمين) إلى الآن تشاهد الأشراف منهم يضعون النقاب الأسود على وجوههم، أما غيرهم فالنقاب الأزرق وللعبيد النقاب الأبيض.
أما في تونس فإن شهر المحرم شهر حزن لا تقام فيه الأفراح، ولا يأخذ النساء زينتهن، ويوم عاشوراء عندهم يوم حزن شديد، ولآل البيت في تونس مكانتهم كذلك، وإمامة الجامع الأعظم تكاد تنحصر فيهم رغم وجود من هو أعظم منهم، ولعل من بقية عهد الفاطميين الطرق الصوفية التي نشاهد في أسانديها كلها على اختلاف شيوخها المنسوبة إليهم، أنها تجمع كلها في الإمام جعفر الصادق والإمام محمد الباقر، وترتفع إلى الإمام علي كرم الله وجهه، ثم إلى مقام التصلية والتسليم، كما تجتمع شجرات الشرف في إدريس الأكبر ابن عبد الله الكامل ـ السبط ـ.
المذهب الحنفي:
أما مذهب أبي حنيفة النعمان فقد دخل إلى تونس وطرابلس والجزار عند دخول الأتراك إليها في أواخر القرن العاشر، ولا يزال مذهب من تناسل منهم إلى الآن، وهو مذهب العائلة المالكة في تونس.
أما في مراكش فلا يكاد يوجد أتباع لهذه المذهب، وتوجد في الجزائر وفي تونس محاكم شرعية لكل من المذهبين: المالكي والحنفي، وقد نبغ بين أتباع هذا المذهب علماء أعلام، ألفوا فيه مؤلفات قيمة، ويدرس هذا المذهب في تونس في جامع الزيتونة إلى الآن. أما بقية الفرق والمذاهب الإسلامية الأخرى، فإن تونس وشمال إفريقيا لا تعرفها إلا من المؤلفات.