الحمد لله وحده، حمدًا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، والصلاة والسلام على من لا نبي
بعده، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه.
أما بعدُ: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصِّيَامُ
جُنَّةُ، فَلا يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ، وإِن امرؤٌ قَاتَلَهُ أو شاتمهُ فليقل:
إني صائم (مرتين)، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوف فَمِ الصَّائمِ أطيب عند
الله من ريح المسْكِ يترك طعامه وشرابه وشهوته من أَجْلِي الصيام لي وأنا أجزى به».
هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه بالأرقام الآتية (1894، 1904، 5927،
7492، 7538)، كما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه برقم (1151)، وكذلك أخرجه الإمام
أبو داود في سننه برقم (2363، وأخرجه الإمام أحمد في المسند بالأرقام (1/195-
196، 2/257، 273، 302، 312، 4/23، 5/83). وكذلك الإمام الدارمي في سننه برقم
(1732) من حديث أبي عبيدة، وبرقم (1771) من حديث أبي هريرة.
أولاً: شرح الحديث
قوله: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ». قال الحافظ في الفتح: زاد سعيد بن منصور عن مغيرة
بن عبد الرحمن عن أبي الزناد «جُنَّةٌ من النَّار»، وللنسائي من حديث عائشة
مثله، وله من حديث عثمان بن أبي العاص: «الصيام جُنَّةٌ كجُنَّةِ أحدكم من
القتال». ولأحد من طريق أبي يونس عن أبي هريرة: «جنة وحصن حصينٌ من النار». وله
من حديث أبي عبيدة بن الجراح: «الصيام جُنَّةٌ مَا لَمْ يخرقها». زاد الدارمي:
«بالغيبة» أي: ما لم يخرمها بالغيبة، وبذلك ترجم له هو وأبو داود.
والجُنَّةُ - بضم الجيم-: الوقاية والستر، وقد تبين بهذه الروايات متعلق هذا
الستر، وأنه من النار، وبهذا جزم ابن عبد البر، وأما صاحبُ النهاية فقال: معنى
كونه جُنَّة، أي يقي صاحبه ما يؤذيه الشهوات، وقال القرطبي: جنة أي ستر، يعني:
بحسب مشروعيته، فينبغي للصائم أن يصونه عما يفسده وينقص ثوابه، وإليه الإشارة
بقوله: «فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يَرْفُثْ» إلخ. ويصح أن يراد أنه سترة بحسب
فائدته وهو إضعاف شهوات النفس، وإليه الإشارة بقوله: «يدع شهوته» إلخ، ويصح أن
يراد أنه سترة بحسب ما يحصل من الثواب وتضعيف الحسنات.
وقال عياض في «الإكمال»: معناه سترة من الآثام أو من النار أو من جميع ذلك،
وبالأخير جزم النووي. وقال ابن العربي: إنما كان الصوم جُنَّةً من النار لأنه
إمساك عن الشهوات والنار محفوفة بالشهوات.
فالحاصل أنه إذا كفَّ نفسه عن الشهوات في الدنيا كان ذلك ساترًا له من النار في
الآخرة.
قال الحافظ: وفي زيادة أبي عبيدة بن الجراح إشارة إلى أن الغيبة تضر بالصيام،
وقد حكي عن عائشة، وبه قال الأوزاعي: إن الغيبة تفطر الصائم وتوجب عليه قضاء
ذلك اليوم، وأفرط ابن حزم فقال: يبطل الصيام كل معصية من متعمد لها ذاكرِ لصومه
سواء كانت فِعْلاً أو قولاً، لعموم قوله: «فلا يرفث ولا يجهل»، ولقوله في
الحديث الآخر: «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع
طعامه وشرابه».
قال في الفتح: والجمهور وإن حملوا النهي على التحريم إلا أنهم خصوا الفطر
بالأكل والشراب والجماع.
أي العبادات أرجح ؟
قال: وأشار ابن عبد البر إلى ترجيح الصيام على غيره من العبادات، فقال: حسبك
يكون الصيام جنة من النار فضلاً، وروى النسائي بسند صحيح عن أبي أمامة قال:
قلت: يا رسول الله، مرني بأمر آخذه عنك، قال: «عليك بالصوم فإنه لا مثل له».
وفي رواية: «لا عدل له». والمشهور عند الجمهور ترجيح الصلاة.
قوله: «فلا يَرْفُث»: أي الصائم: كذا اختصره البخاري هنا، وفي الموطأ: «الصيام
جُنَّةٌ، فإذا كان أحدكم صائمًا فلا يرفث». إلخ. والمراد بالرفث هنا الكلام
الفاحش، والرفث يطلق على الكلام الفاحش وعلى الجماع وعلى مقدماته، وقد يكون أعم
من ذلك.
وقوله: «ولا يجهل» أي: لا يأتي بشيء من فعال الجاهلين مثل الصياح والسفه وغير
ذلك، قال الحافظ: ولسعيد بن منصور: «فلا يرفث ولا يجادل»: قال القرطبي: لا يفهم
من ذلك أنه في غير الصوم يباح فيه ذلك، وإنما المراد أن ذلك ممنوع على كل حال
وإنما يتأكد المنع حال الصوم.
وقوله: «وإن امرؤ قاتله أو شاتمه». وفي رواية صالح: «فإن سَابَّهُ أحد أو
قاتله». وفي رواية لأبي قرة: «وإن شتمه إنسان فلا يكلمه». ونحوه عند أحمد من
رواية هشام عن أبي هريرة، وفي رواية سعيد بن منصور من طريق سهيل: «فإن سابَّهُ
أو ماراه». أي جادله، ولابن حزم عن أبي هريرة رضي الله عنه: «وإن سابَّك أحد
فقل: إني صائم، وإن كنت قائمًا فاجلس». ولأحد والترمذي من طريق ابن المسيب عن
أبي هريرة: «فإن جهل على أحدكم جاهل وهو صائم»، وللنسائي من حديث عائشة رضي
الله عنها: «وإن امرؤ جهل عليه فلا يشتمه ولا يسبه».
هذا، وقد اتفقت الروايات كلها على أن الصائم يقول: إني صائم، لكن منها ما ذكره
مرة واحدة، ومنها ما ذكره مرتين. واختلف العلماء؛ أيقول ذلك بلسانه بصوت مسموع،
أم يقول ذلك في نفسه بحيث لا يسمعه أحد؟ والظاهر والله أعلم أنه يسمع من يسبه
أو يقاتله حتى يكون في ذلك زجرٌ له ولسامعه.
وقوله: «والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم». أقسم صلى الله عليه وسلم تأكيدًا لذلك.
والخُلُوفُ - بضم الخاء - هو تغير رائحة فم الصائم بسبب الصيام ولا سيما في شدة
الحر.
وقوله: «أطيب عند الله من ريح المسك»، جعل دم الشهيد يوم القيامة ريحه ريح
المسك، وأما خلوف فم الصائم فهو أطيب من ريح المسك، قال العلماء: وليس في ذلك
دليل على أن الصوم أفضل من الشهادة ؛ إذ أن فضل الشهادة في سبيل الله تعالى
معلوم.
وقوله: «يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي». وفي رواية الموطأ: «وإنما يذر
شهوته». إلخ. وقد صرح في رواية أحمد بنسبته إلى الله تعالى، فقال بعد قوله: «من
ريح المسك»: «يقول الله عز وجل: إنما يذر شهوته» إلخ. وكذلك صرح في أول الحديث
في روايات متعددة فقال: «يقول الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له... إلخ». ويُفهم
من صيغة الحصر في قوله: «إنما يذر شهوته». إلخ. التنبيه على الإخلاص في الصوم
وأن الإخلاص هو المترتب عليه هذا الثواب العظيم.
وقوله: «الصيام لي وأنا أجزي به». ذكر الحافظ في الفتح عشرة أقوال في معنى
اختصاص الصوم به سبحانه، ثم ذكر بعدها خلاصة مؤداها ما يلي:
أن الحسنات يضاعف أجرها من عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فلا يضاعف
إلى هذا القدر، بل ثوابه لا يقدر قدره ولا يحصيه إلا الله تعالى، ولذلك يتولى
الله سبحانه جزاءه بنفسه، والسبب في اختصاص الصوم بهذه المرتبة أمران:
أحدهما: أن سائر العبادات مما يطلع العباد عليه، والصوم سر بين العبد وبين الله
تعالى يفعله خالصًا ويعامله به طالبًا لرضاه، وإلى ذلك الإشارة بقوله: «فإنه
لي». والآخر: أن سائر الحسنات راجعة إلى صرف المال أو استعمال البدن، والصوم
يتضمن كسر النفس وتعريض البدن للنقصان، وفيه الصبر على مضض الجوع والعطش وترك
الشهوات. وإلى ذلك الإشارة بقوله: «يدع شهوته من أجلي».
ثانيًا: حال المؤمنين وسلوك الصالحين في رمضان:
المؤمنون يوقنون أن الصيام من أعظم العون على محاربة الهوى وقمع الشهوات وتزكية
النفس، وإيقافها عند حدود الله تعالى، فيحبس الواحد منهم لسانه عن اللغو
والسباب والانطلاق في أعراض الناس، والسعي بينهم بالنميمة المفسدة والغيبة، كما
أنهم يمتنعون عن الغش والخداع، والتطفيف والمكر وارتكاب الفواحش وأكل الربا،
وتعاطي الرضوة، وأكل أموال الناس بالباطل بأي نوع من الاحتيال.
والصالحون يسارعون في رمضان إلى فعل الخيرات وترك المنكرات ؛ فعل الخيرات من
إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة على وجهها الصحيح وفي جهاتها المشروعة، وبذل
الصدقات والحرص على تحصيل الرزق من وجوه الحلال، كما أنهم يحرصون على البعد عن
اقتراف الآثام والفواحش، فإذا نسوا أو غلبت الواحد منهم نفسُه على فعل معصية
ذكر الله تعالى مسرعًا فأناب إليه واستغفر وتاب مما أصاب، وذلك لأن الصوم غرس
فيه خشية الله تعالى ومراقبته، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا
مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ
[الأعراف: 201].
لذلك فإن المؤمنين يتحفظون من كل ما يؤثر على صيامهم من سلوك مشين أو خلق مهين
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع
طعامه وشرابه». [البخاري 1903]. فهم يوقنون أن الصوم تهذيب لا تعذيب، وإذا لم
يؤت ثمرته النافعة فليس العيب فيه وإنما العيب والنقص من سوء تصرف الصائم وعدم
صحة قلبه وطهارة ضميره وحسن تفكيره.
والصالحون المتقون يعلمون أن الصوم يجب أن يكون عن إيمان واحتساب وضبط وتعظيم
لشعائر الله سبحانه وتعالى، لا عن تقليد ومسايرة، كصوم من يصوم متوجعًا
متحسرًا، ويقتل أوقاته بالنوم والبطالة، فمثل ذلك يقتل نفسه قتلًا معنويًا،
ويتمنى سرعة انقضاء الشهر وكأنه ليس محسوبًا من عمره أوب ليس فيه زيادة لأجره،
والعياذ بالله.
إن المؤمنين الصالحين يقتدون في صيامهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأصحابه الكرام، فقد كانوا
راضين بالله وبشرائع الله، مطمئنة نفوسهم منشرحة صدورهم مسرورين، شاكرين لله
سبحانه الذي فسح لهم في العمر حتى بلغهم شهر الصيام، ولم يجعلهم من أصحاب
القبور، فبذلك الاقتداء لا يكون في أنفسهم اضطراب ولا انزعاج ولا ضيق ولا حرج،
بل يكونون أطيب أنْفُسًا وأهدأ بالاً وأقوى روحًا، وأحسن خلقًا في تعاملهم،
وإذا ابتلى الواحد منههم بخصم من الحمقى لم يجاره في حمقه وسفاهته، بل يقول له
مرتين: إني صائم كما أرشده لذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم .
وهم يعلمون أن الغاية العظمى من الصوم هي التقوى بجميع معانيها، فإن الله تعالى
يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183].
وهم كذلك يعلمون منزلة التقوى عند الله تعالى، وقوة تأثيرها وحسن نتائجها في
جميع أعمالهم، فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم وأفئدتهم، فتندفع إليها بقوة.
كما أنهم يعرفون أن الصوم أكبر حافز لتحصيلها، وخير أداة من أدواتها وأحسن طريق
موصل إليها، ومن ثم يرفعها سياق القرآن في ختام الآية أمام أعينهم وقلوبهم
هدفًا وضَّاءً يسعون إليه عن طريق الصيام، فيكسبهم التوبة عما اقترفوه من
الذنوب قبله، فيمنحهم الجد والنشاط في القيام بوظائفهم تجاه دينهم ودنياهم
وأخراهم، ولذا وصف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الصيام بأعظم وصف، إذ يقول: «الصِّيَامُ
جُنَّةٌ». أي: ستر ووقاية يقي صاحبه المعاصي وجميع المزالق التي يتردى فيها،
والصيام جنة ما لم يخرقها بشيء من أعمال الإثم وسوء النية أو سوء الاستقبال له
وعدم الانشراح به، أو يخرقها بسوء الفهم وعدم المراقبة لله تعالى.
والمؤمنون يلزمون في هذا الشهر تلاوة القرآن، كتاب الله تعالى، فإن حال سيدهم
وأسوتهم صلى الله عليه وسلم أنه كان ينزل عليه جبريل كل سنة في رمضان فيدارسه القرآن فيعرض عليه
القرآن عرضة واحدة، وفي عامه الأخير عرضه عليه مرتين، فذا هم يقتدون به صلى الله عليه وسلم
فيكثرون من تلاوة القرآن الكريم، ولقد كان بعض السلف من الصحابة وغيرهم يختم
القرآن عدة مرات في شهر رمضان، ومع تلاوة القرآن ومصاحبة الصالحين يكون الجود
والكرم في العطاء من رزق الله الذي آتاهم فيحسنون إلى الفقراء والمحتاجين
واليتامى والمساكين متمثلين في ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى عنه عبد الله بن عباس
رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في
رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه في كل ليلة في رمضان حتى
ينسلخ، يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير
من الريح المرسلة. [البخاري: 1902].
فيكثر المؤمنون الصالحون من الصدقات لذلك، كما أنهم يحرصون على تفطير الصائمين؛
لينالوا بذلك مثل أجور من فطروهم كما جاء في الحديث: «من فطّر صائمًا كان له
مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئًا». [أحمد، والترمذي، وابن ماجه،
عن زيد بن خالد، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 6415].
الصالحون والبر في رمضان
يحرص المؤمنون المتقون على الازدياد من البر وأعمال الخير في رمضان، كبر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الأقربين ويخصون الأهل والأولاد بمزيد عناية من تربيتهم وتنشئتهم على البذل والعطاء والجود والكرم، كما يزدادون في الإحسان إلى الجيران والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصلة الأحباب والخلان على التوادِّ والتعاطف والتحابِّ في الله عز وجل.
المؤمنون واعتكاف العشر الأواخر
والمؤمنون يحافظون على السنن الواردة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ولا سيما ما يخص رمضان من اعتكاف العشر الأواخر في المسجد ؛ تركًا لأمور الدنيا، وإقبالاً على الرب تبارك وتعالى، مستلهمين رضاه سبحانه حتى يختموا شهرهم بأعظم القربات إلى الله العلي الكبير، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، قالت أم المؤمنين
عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان. [مسلم
1172].
ومع صدقة الفطر
فإذا انتهى المؤمنون من صيام شهرهم فإنهم يشكرون الله تعالى على إتمام نعمته عليهم فيكبرون الله تعاللى ليلة عيد الفطر، ويخرجون صدقة الفطر صاعًا من تمر أو زبيب أو شعير أو طعام، كما ورد عن سيد الأنام عليه الصلاة والسلام من حديث ابن
عمر رضي الله عنهما، ويعلمون أنها طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين ليغنوهم عن السؤال في هذا اليوم، كما أمر المصطفى صلوات الله وسلامه عليهم.اللهم تقبل منا أعمالنا، واجعلها خالصة لوجهك، وتب علينا، إنك أنت التواب
الرحيم، وصلِّ اللهم سولم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله وصحبه أجمعين،
والحمد لله رب العالمين.
بعده، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه.
أما بعدُ: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصِّيَامُ
جُنَّةُ، فَلا يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ، وإِن امرؤٌ قَاتَلَهُ أو شاتمهُ فليقل:
إني صائم (مرتين)، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوف فَمِ الصَّائمِ أطيب عند
الله من ريح المسْكِ يترك طعامه وشرابه وشهوته من أَجْلِي الصيام لي وأنا أجزى به».
هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه بالأرقام الآتية (1894، 1904، 5927،
7492، 7538)، كما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه برقم (1151)، وكذلك أخرجه الإمام
أبو داود في سننه برقم (2363، وأخرجه الإمام أحمد في المسند بالأرقام (1/195-
196، 2/257، 273، 302، 312، 4/23، 5/83). وكذلك الإمام الدارمي في سننه برقم
(1732) من حديث أبي عبيدة، وبرقم (1771) من حديث أبي هريرة.
أولاً: شرح الحديث
قوله: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ». قال الحافظ في الفتح: زاد سعيد بن منصور عن مغيرة
بن عبد الرحمن عن أبي الزناد «جُنَّةٌ من النَّار»، وللنسائي من حديث عائشة
مثله، وله من حديث عثمان بن أبي العاص: «الصيام جُنَّةٌ كجُنَّةِ أحدكم من
القتال». ولأحد من طريق أبي يونس عن أبي هريرة: «جنة وحصن حصينٌ من النار». وله
من حديث أبي عبيدة بن الجراح: «الصيام جُنَّةٌ مَا لَمْ يخرقها». زاد الدارمي:
«بالغيبة» أي: ما لم يخرمها بالغيبة، وبذلك ترجم له هو وأبو داود.
والجُنَّةُ - بضم الجيم-: الوقاية والستر، وقد تبين بهذه الروايات متعلق هذا
الستر، وأنه من النار، وبهذا جزم ابن عبد البر، وأما صاحبُ النهاية فقال: معنى
كونه جُنَّة، أي يقي صاحبه ما يؤذيه الشهوات، وقال القرطبي: جنة أي ستر، يعني:
بحسب مشروعيته، فينبغي للصائم أن يصونه عما يفسده وينقص ثوابه، وإليه الإشارة
بقوله: «فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يَرْفُثْ» إلخ. ويصح أن يراد أنه سترة بحسب
فائدته وهو إضعاف شهوات النفس، وإليه الإشارة بقوله: «يدع شهوته» إلخ، ويصح أن
يراد أنه سترة بحسب ما يحصل من الثواب وتضعيف الحسنات.
وقال عياض في «الإكمال»: معناه سترة من الآثام أو من النار أو من جميع ذلك،
وبالأخير جزم النووي. وقال ابن العربي: إنما كان الصوم جُنَّةً من النار لأنه
إمساك عن الشهوات والنار محفوفة بالشهوات.
فالحاصل أنه إذا كفَّ نفسه عن الشهوات في الدنيا كان ذلك ساترًا له من النار في
الآخرة.
قال الحافظ: وفي زيادة أبي عبيدة بن الجراح إشارة إلى أن الغيبة تضر بالصيام،
وقد حكي عن عائشة، وبه قال الأوزاعي: إن الغيبة تفطر الصائم وتوجب عليه قضاء
ذلك اليوم، وأفرط ابن حزم فقال: يبطل الصيام كل معصية من متعمد لها ذاكرِ لصومه
سواء كانت فِعْلاً أو قولاً، لعموم قوله: «فلا يرفث ولا يجهل»، ولقوله في
الحديث الآخر: «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع
طعامه وشرابه».
قال في الفتح: والجمهور وإن حملوا النهي على التحريم إلا أنهم خصوا الفطر
بالأكل والشراب والجماع.
أي العبادات أرجح ؟
قال: وأشار ابن عبد البر إلى ترجيح الصيام على غيره من العبادات، فقال: حسبك
يكون الصيام جنة من النار فضلاً، وروى النسائي بسند صحيح عن أبي أمامة قال:
قلت: يا رسول الله، مرني بأمر آخذه عنك، قال: «عليك بالصوم فإنه لا مثل له».
وفي رواية: «لا عدل له». والمشهور عند الجمهور ترجيح الصلاة.
قوله: «فلا يَرْفُث»: أي الصائم: كذا اختصره البخاري هنا، وفي الموطأ: «الصيام
جُنَّةٌ، فإذا كان أحدكم صائمًا فلا يرفث». إلخ. والمراد بالرفث هنا الكلام
الفاحش، والرفث يطلق على الكلام الفاحش وعلى الجماع وعلى مقدماته، وقد يكون أعم
من ذلك.
وقوله: «ولا يجهل» أي: لا يأتي بشيء من فعال الجاهلين مثل الصياح والسفه وغير
ذلك، قال الحافظ: ولسعيد بن منصور: «فلا يرفث ولا يجادل»: قال القرطبي: لا يفهم
من ذلك أنه في غير الصوم يباح فيه ذلك، وإنما المراد أن ذلك ممنوع على كل حال
وإنما يتأكد المنع حال الصوم.
وقوله: «وإن امرؤ قاتله أو شاتمه». وفي رواية صالح: «فإن سَابَّهُ أحد أو
قاتله». وفي رواية لأبي قرة: «وإن شتمه إنسان فلا يكلمه». ونحوه عند أحمد من
رواية هشام عن أبي هريرة، وفي رواية سعيد بن منصور من طريق سهيل: «فإن سابَّهُ
أو ماراه». أي جادله، ولابن حزم عن أبي هريرة رضي الله عنه: «وإن سابَّك أحد
فقل: إني صائم، وإن كنت قائمًا فاجلس». ولأحد والترمذي من طريق ابن المسيب عن
أبي هريرة: «فإن جهل على أحدكم جاهل وهو صائم»، وللنسائي من حديث عائشة رضي
الله عنها: «وإن امرؤ جهل عليه فلا يشتمه ولا يسبه».
هذا، وقد اتفقت الروايات كلها على أن الصائم يقول: إني صائم، لكن منها ما ذكره
مرة واحدة، ومنها ما ذكره مرتين. واختلف العلماء؛ أيقول ذلك بلسانه بصوت مسموع،
أم يقول ذلك في نفسه بحيث لا يسمعه أحد؟ والظاهر والله أعلم أنه يسمع من يسبه
أو يقاتله حتى يكون في ذلك زجرٌ له ولسامعه.
وقوله: «والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم». أقسم صلى الله عليه وسلم تأكيدًا لذلك.
والخُلُوفُ - بضم الخاء - هو تغير رائحة فم الصائم بسبب الصيام ولا سيما في شدة
الحر.
وقوله: «أطيب عند الله من ريح المسك»، جعل دم الشهيد يوم القيامة ريحه ريح
المسك، وأما خلوف فم الصائم فهو أطيب من ريح المسك، قال العلماء: وليس في ذلك
دليل على أن الصوم أفضل من الشهادة ؛ إذ أن فضل الشهادة في سبيل الله تعالى
معلوم.
وقوله: «يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي». وفي رواية الموطأ: «وإنما يذر
شهوته». إلخ. وقد صرح في رواية أحمد بنسبته إلى الله تعالى، فقال بعد قوله: «من
ريح المسك»: «يقول الله عز وجل: إنما يذر شهوته» إلخ. وكذلك صرح في أول الحديث
في روايات متعددة فقال: «يقول الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له... إلخ». ويُفهم
من صيغة الحصر في قوله: «إنما يذر شهوته». إلخ. التنبيه على الإخلاص في الصوم
وأن الإخلاص هو المترتب عليه هذا الثواب العظيم.
وقوله: «الصيام لي وأنا أجزي به». ذكر الحافظ في الفتح عشرة أقوال في معنى
اختصاص الصوم به سبحانه، ثم ذكر بعدها خلاصة مؤداها ما يلي:
أن الحسنات يضاعف أجرها من عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فلا يضاعف
إلى هذا القدر، بل ثوابه لا يقدر قدره ولا يحصيه إلا الله تعالى، ولذلك يتولى
الله سبحانه جزاءه بنفسه، والسبب في اختصاص الصوم بهذه المرتبة أمران:
أحدهما: أن سائر العبادات مما يطلع العباد عليه، والصوم سر بين العبد وبين الله
تعالى يفعله خالصًا ويعامله به طالبًا لرضاه، وإلى ذلك الإشارة بقوله: «فإنه
لي». والآخر: أن سائر الحسنات راجعة إلى صرف المال أو استعمال البدن، والصوم
يتضمن كسر النفس وتعريض البدن للنقصان، وفيه الصبر على مضض الجوع والعطش وترك
الشهوات. وإلى ذلك الإشارة بقوله: «يدع شهوته من أجلي».
ثانيًا: حال المؤمنين وسلوك الصالحين في رمضان:
المؤمنون يوقنون أن الصيام من أعظم العون على محاربة الهوى وقمع الشهوات وتزكية
النفس، وإيقافها عند حدود الله تعالى، فيحبس الواحد منهم لسانه عن اللغو
والسباب والانطلاق في أعراض الناس، والسعي بينهم بالنميمة المفسدة والغيبة، كما
أنهم يمتنعون عن الغش والخداع، والتطفيف والمكر وارتكاب الفواحش وأكل الربا،
وتعاطي الرضوة، وأكل أموال الناس بالباطل بأي نوع من الاحتيال.
والصالحون يسارعون في رمضان إلى فعل الخيرات وترك المنكرات ؛ فعل الخيرات من
إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة على وجهها الصحيح وفي جهاتها المشروعة، وبذل
الصدقات والحرص على تحصيل الرزق من وجوه الحلال، كما أنهم يحرصون على البعد عن
اقتراف الآثام والفواحش، فإذا نسوا أو غلبت الواحد منهم نفسُه على فعل معصية
ذكر الله تعالى مسرعًا فأناب إليه واستغفر وتاب مما أصاب، وذلك لأن الصوم غرس
فيه خشية الله تعالى ومراقبته، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا
مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ
[الأعراف: 201].
لذلك فإن المؤمنين يتحفظون من كل ما يؤثر على صيامهم من سلوك مشين أو خلق مهين
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع
طعامه وشرابه». [البخاري 1903]. فهم يوقنون أن الصوم تهذيب لا تعذيب، وإذا لم
يؤت ثمرته النافعة فليس العيب فيه وإنما العيب والنقص من سوء تصرف الصائم وعدم
صحة قلبه وطهارة ضميره وحسن تفكيره.
والصالحون المتقون يعلمون أن الصوم يجب أن يكون عن إيمان واحتساب وضبط وتعظيم
لشعائر الله سبحانه وتعالى، لا عن تقليد ومسايرة، كصوم من يصوم متوجعًا
متحسرًا، ويقتل أوقاته بالنوم والبطالة، فمثل ذلك يقتل نفسه قتلًا معنويًا،
ويتمنى سرعة انقضاء الشهر وكأنه ليس محسوبًا من عمره أوب ليس فيه زيادة لأجره،
والعياذ بالله.
إن المؤمنين الصالحين يقتدون في صيامهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأصحابه الكرام، فقد كانوا
راضين بالله وبشرائع الله، مطمئنة نفوسهم منشرحة صدورهم مسرورين، شاكرين لله
سبحانه الذي فسح لهم في العمر حتى بلغهم شهر الصيام، ولم يجعلهم من أصحاب
القبور، فبذلك الاقتداء لا يكون في أنفسهم اضطراب ولا انزعاج ولا ضيق ولا حرج،
بل يكونون أطيب أنْفُسًا وأهدأ بالاً وأقوى روحًا، وأحسن خلقًا في تعاملهم،
وإذا ابتلى الواحد منههم بخصم من الحمقى لم يجاره في حمقه وسفاهته، بل يقول له
مرتين: إني صائم كما أرشده لذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم .
وهم يعلمون أن الغاية العظمى من الصوم هي التقوى بجميع معانيها، فإن الله تعالى
يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183].
وهم كذلك يعلمون منزلة التقوى عند الله تعالى، وقوة تأثيرها وحسن نتائجها في
جميع أعمالهم، فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم وأفئدتهم، فتندفع إليها بقوة.
كما أنهم يعرفون أن الصوم أكبر حافز لتحصيلها، وخير أداة من أدواتها وأحسن طريق
موصل إليها، ومن ثم يرفعها سياق القرآن في ختام الآية أمام أعينهم وقلوبهم
هدفًا وضَّاءً يسعون إليه عن طريق الصيام، فيكسبهم التوبة عما اقترفوه من
الذنوب قبله، فيمنحهم الجد والنشاط في القيام بوظائفهم تجاه دينهم ودنياهم
وأخراهم، ولذا وصف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الصيام بأعظم وصف، إذ يقول: «الصِّيَامُ
جُنَّةٌ». أي: ستر ووقاية يقي صاحبه المعاصي وجميع المزالق التي يتردى فيها،
والصيام جنة ما لم يخرقها بشيء من أعمال الإثم وسوء النية أو سوء الاستقبال له
وعدم الانشراح به، أو يخرقها بسوء الفهم وعدم المراقبة لله تعالى.
والمؤمنون يلزمون في هذا الشهر تلاوة القرآن، كتاب الله تعالى، فإن حال سيدهم
وأسوتهم صلى الله عليه وسلم أنه كان ينزل عليه جبريل كل سنة في رمضان فيدارسه القرآن فيعرض عليه
القرآن عرضة واحدة، وفي عامه الأخير عرضه عليه مرتين، فذا هم يقتدون به صلى الله عليه وسلم
فيكثرون من تلاوة القرآن الكريم، ولقد كان بعض السلف من الصحابة وغيرهم يختم
القرآن عدة مرات في شهر رمضان، ومع تلاوة القرآن ومصاحبة الصالحين يكون الجود
والكرم في العطاء من رزق الله الذي آتاهم فيحسنون إلى الفقراء والمحتاجين
واليتامى والمساكين متمثلين في ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى عنه عبد الله بن عباس
رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في
رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه في كل ليلة في رمضان حتى
ينسلخ، يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير
من الريح المرسلة. [البخاري: 1902].
فيكثر المؤمنون الصالحون من الصدقات لذلك، كما أنهم يحرصون على تفطير الصائمين؛
لينالوا بذلك مثل أجور من فطروهم كما جاء في الحديث: «من فطّر صائمًا كان له
مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئًا». [أحمد، والترمذي، وابن ماجه،
عن زيد بن خالد، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 6415].
الصالحون والبر في رمضان
يحرص المؤمنون المتقون على الازدياد من البر وأعمال الخير في رمضان، كبر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الأقربين ويخصون الأهل والأولاد بمزيد عناية من تربيتهم وتنشئتهم على البذل والعطاء والجود والكرم، كما يزدادون في الإحسان إلى الجيران والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصلة الأحباب والخلان على التوادِّ والتعاطف والتحابِّ في الله عز وجل.
المؤمنون واعتكاف العشر الأواخر
والمؤمنون يحافظون على السنن الواردة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ولا سيما ما يخص رمضان من اعتكاف العشر الأواخر في المسجد ؛ تركًا لأمور الدنيا، وإقبالاً على الرب تبارك وتعالى، مستلهمين رضاه سبحانه حتى يختموا شهرهم بأعظم القربات إلى الله العلي الكبير، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، قالت أم المؤمنين
عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان. [مسلم
1172].
ومع صدقة الفطر
فإذا انتهى المؤمنون من صيام شهرهم فإنهم يشكرون الله تعالى على إتمام نعمته عليهم فيكبرون الله تعاللى ليلة عيد الفطر، ويخرجون صدقة الفطر صاعًا من تمر أو زبيب أو شعير أو طعام، كما ورد عن سيد الأنام عليه الصلاة والسلام من حديث ابن
عمر رضي الله عنهما، ويعلمون أنها طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين ليغنوهم عن السؤال في هذا اليوم، كما أمر المصطفى صلوات الله وسلامه عليهم.اللهم تقبل منا أعمالنا، واجعلها خالصة لوجهك، وتب علينا، إنك أنت التواب
الرحيم، وصلِّ اللهم سولم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله وصحبه أجمعين،
والحمد لله رب العالمين.