*****نور الاسلام*****

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    ثلاثية: صباح دافئ في شتاء نيويورك

    نور الاسلام
    نور الاسلام
    نائب صاحب الموقع
    نائب صاحب الموقع


    ذكر عدد الرسائل : 560
    البلد : maroc
    الوظيفة : electronique
    اسم الدولة : ثلاثية: صباح دافئ في شتاء نيويورك Female49
    احترامك لقوانين المنتدى : ثلاثية: صباح دافئ في شتاء نيويورك 69583210
    تاريخ التسجيل : 19/08/2007

    ثلاثية: صباح دافئ في شتاء نيويورك Empty ثلاثية: صباح دافئ في شتاء نيويورك

    مُساهمة من طرف نور الاسلام الثلاثاء 22 يناير 2008 - 18:55


    صباح دافئ في شتاء نيويورك
    بقلم نور الاسلام
    (1)

    أطفأ التلفاز بحركة عنيفة، ورمى جهاز "التحكم عن بعد" على المنضدة. رشف القطرات الأخيرة المتبقية في كأس الليمونادة، وعاد للنظر في المارة من خلف النافذة. كان الجو بارداً في الخارج، فاعترت جسده المترهل قشعريرة باردة. نهض متكاسلاً إلى المدفأة الحجرية وألقمها بعض الحطب، ثم وقف أمام النافذة يمسح بيده العارية ما تكثف على زجاجها من بخار، وعاد للتأمل في وجوه المارة.
    التمعت في ذهنه فكرة مباغتة، فأسرع إلى دفتر قديم ملقى على المنضدة لينتزع منه إحدى الصفحات، ثم ارتمى على أريكته وبدأ يفكر بديباجة مناسبة يبدأ بها رسالته.
    رفع بصره إلى السقف المعتم، وبدأ باسترجاع شريط الذكريات..
    هاهو يخرج من مطار نيويورك مع زوجته وابنته ذات الأعوام العشرة ليمتع عينه بمنظر المدينة الخلاب، لقد تحقق حلمه أخيراً بالهجرة إلى أرض الأحلام، وعليه الآن أن يبدأ مع أسرته الصغيرة حياة جديدة.
    مصاعب كثيرة تتناوب على الزوجين لتأمين حياة كريمة لهما ولابنتهما، وتناقضات واضحة بين الحلم القديم والواقع.
    ابنته الوحيدة تملأ البيت بالحياة والحركة، وتقفز على الترامبولين بمرح أمام والديها المشغولين بالشواء في فناء البيت الخلفي.
    الشريط يقفز بسرعة إلى أول يوم لها في مدرسة أجنبية، وتتسارع صور مشكلاتها مع اللغة والأصدقاء والتحيز، ثم تظهر فجأةً لحظةُ تخرّجها من الجامعة، وهاهي تلقي خطبة التخرج بالنيابة عن زملائها.. كانت فرحة والديها لا توصف وهما يقطفان ثمرة العمر.
    لا شيء يدوم في هذه الحياة، فهذه زوجته التي شاركته حلو الحياة ومرها تستسلم للموت، وتسقط يدها من قبضته.. كان عاماً أسود قلب حياة الزوج والابنة رأساً على عقب.
    بدأت الابنة الشابة بالتغير، وملأت البيت بالصراخ والبكاء في كل مناسبة. كان قادراً على تحمل سلوكها المتشنج بسعة صدره، فهو يعلم وقع المصيبة على نفسها، ولكن الأمور بدأت بالخروج عن سيطرته.
    لقد أفسد الدلال أخلاقها، ولم يعد يعجبها شيء، كما بدأ العقد السابع من عمره يرسم آثاره على جسده المتعب.
    لقطات خاطفة من الشريط تتسارع أمام عينيه، حتى شعر بصعوبة ملاحقتها..
    ابنته الوحيدة تصرخ في وجهه كالعادة، تشتمه وتحمّله مسؤولية أشياء لم تخطر بباله، تنزع حجابها الذي جهد مع أمها لإقناعها به وسط سخرية زميلاتها، وتخبره بكل وقاحة عن صديقها الذي سيخلصها منه.
    أشياء كثيرة لم يعد قادراً حتى على استحضارها، ولكن صورة ابنته وهي تحمل حقيبتها التي أعدّتها مسبقاً وتخرج من باب البيت أمام دهشة أبيها المفجوع لن تفارق خياله.
    أغمض عينيه وأجهش بالبكاء.. نزع غطاء القلم، وبدأ يكتب بيد مرتعشة: "رسالة إلى ابنتي الوحيدة".. ثم وضع عنواناً لها: "اذكريني يا ابنتي"، وكتب تحته:

    أي بُنيّة،
    يا لوعة القلب الذي أدميتِه بطعنات عينيك.. ليتني أفهم، كيف هان قتلي عليك لتهجريني؟ وكيف عقدت العزم على تخطي أبيك إذ انسابت أنوثة صباك على جانبيك، لتعلني بملء فمك: "أنا حرة"؟!
    أمهليني يا ابنتي.. أمهليني بعض الوقت كي أصدق ما رأته عيني، فأنا في شك من جرأتها على رؤيتك وأنت تنزعين رداء حشمتك.. أمهليني عسى أن أفيق من هذا المنام المزعج.. أن أرتب أفكاري وأستعيد وقاري، فما أنا بالذي يقوى صدره على تلقي سهامك.

    "أنا حرة".. رميتِها في وجهي ومضيتِ، لا تلوين على شيء! أطلقتِها لتخنقي بها الرمق الأخير الذي يتحشرج في صدر أبيك العجوز.. ومضيتِ!
    مضيتِ إلى حيث تلوح لك الحرية، تلك التي أخرجتك من القلب الوحيد الذي أحبك، لترميك في أحشاء الذئاب!
    "أنتِ حرة"؟.. نعم يا ابنتي.. هكذا عرفتُك مذ همستُ بنداء التوحيد في أذنيك، وغرستُ بذور العزة بين جنبيك، ثم سقيتُها بعرق الجبين الذي سكبتُه في بلاد العُجم لأرى السعادة ترتسم على شفتيك.
    "أنتِ حرة"؟.. نعم، حرة كأبيك، ذاك الذي آثر الشقاء على الكسب الحرام ليُطيب مطعمك، واستوعب بالحِلم هفواتك ليجْـبُر خاطرك، ولم يُقدم على الزواج بعد فراق أمك حرصاً على مشاعرك.
    وماذا بعد ذلك يا ابنتي؟..
    تُديرين لي ظهرك.. وترحلين!
    بعد أن تشرّب جسدك الغض عصارة شبابي، وبعد أن استقام عودك بانحناء ظهري.. ترحلين!
    ألأني بتّ عاجزاً عن دفع فواتيرك، وقد أصبحتِ اليوم تكسبين بغنجك ودلالك أضعاف ما كنتُ أجنيه.. ترحلين؟
    أم لأن فتى أحلامك ليس بحاجة لطرق باب أبيك المهترئ كي يقنعه بأن يحملك على صهوة جواده.. تلملمين أشياءك الصغيرة وترحلين؟

    إن كنت فاعلة يا ابنتي.. فهلاّ تذكرين؟..
    اذكريني إن مررتِ يوماً ببيت أبيك العجوز ولمحتِ نافذة غرفتك التي عشقتْ يديك الصغيرتين كلما لوّحتا لعودتي في المساء.
    اذكريني كلما وطئتِ بحذائك الرياضي أرضاً خضراء، واذكري الحشائش التي رعيتُها لك في فناء البيت كي تشهد خطواتك الأولى.
    اذكريني كلما أدخلتِ يدك إلى جيب معطفك، واذكري أزهار اللوتس التي كنتُ أخفيها لك في جيوبك الصغيرة قبل أن ترحلي إلى مدرستك.
    اذكريني كلما ثنيت جسدك الممشوق في صالة التدريب، واذكري كم مرة أحنيتُ ظهري لتركبي عليه.
    اذكريني يا ابنتي كلما مشيتِ خطوة أو مضغتِ لقمة، اذكريني كلما أمسكتِ قلماً أو قرأتِ كلمة، اذكري أباك العجوز الذي نسيتِه وحيداً أمام نافذة بيتك القديم وهو يتأمل وجوه المارة كل صباح أملاً في عودتك.

    ثم اذكري يا ابنتي أمنيتي الأخيرة، واذكري عدم اكتراثي ببطاقات المعايدة وباقات الورود، فكل ما بقي لي من أمل في هذه الدنيا هو أن أتحسس يديك الناعمتين، ثم أضم جسدك المشدود بالثياب بين ذراعيّ، وأمرر أصابعي بين خصال شعرك الذي أطلقتِه للهواء.. حتى أغمض عينيّ على الحلم الجميل الذي بذلتُه لك.
    ولْتذوقي بعدُ يا ابنتي طعم حريتك كما تشائين!
    يؤسفني أنك لم تتركي لي رقم هاتفك عندما غادرتني، ولذا لم أجد بداً من كتابة هذه الرسالة وإرسالها إلى عنوان الشركة التي تعملين لديها.. أرجو أن تصلك سريعاً، وأن يصلني ردك.
    أبوك المحب



    ختم الرجل رسالته، وضعها في ظرف بريدي وألصق عليه طابعاً، ثم كتب العنوان وهو يغالب دموعه.
    نظر مرة أخرى إلى وجوه المارة عبر النافذة.. وبدأ يفكر: ترى، أين أنت الآن يا ابنتي؟


    **************
    نور الاسلام
    نور الاسلام
    نائب صاحب الموقع
    نائب صاحب الموقع


    ذكر عدد الرسائل : 560
    البلد : maroc
    الوظيفة : electronique
    اسم الدولة : ثلاثية: صباح دافئ في شتاء نيويورك Female49
    احترامك لقوانين المنتدى : ثلاثية: صباح دافئ في شتاء نيويورك 69583210
    تاريخ التسجيل : 19/08/2007

    ثلاثية: صباح دافئ في شتاء نيويورك Empty رد: ثلاثية: صباح دافئ في شتاء نيويورك

    مُساهمة من طرف نور الاسلام الثلاثاء 22 يناير 2008 - 18:57

    (2)


    دخلت شقتها الصغيرة وأغلقت الباب خلفها بعنف، خلعت حذاءها الرياضي ورمته جانباً، ثم ارتمت على أريكتها، أخرجت هاتفها الخلوي من جيب بنطالها وأعادت قراءة رسالة صديقها للمرة العاشرة: "حسناً، لننته من هذا الأمر، لا أريد المزيد من المشاكل، وليبحث كل منا عن حياته الخاصة.. التوقيع: جاك".
    "إلى الجحيم".. كتبت الرد وأرسلته على الفور، ثم رمت الجهاز على المنضدة وأخذت تبكي بحرقة.
    نهضت بعد أن جفت عيناها من الدموع لتنظر إلى وجهها الشاحب في المرآة، وبدأ شريط الذكريات بالاستعراض..
    هاهي تخرج مع والديها من مطار نيويورك لتمتع عينيها بمنظر المدينة الخلاب، وتقول لوالدها: ما أجمل هذه البنايات يا بابا.
    تتجول في غرف البيت الجديد وتتأمل أثاثه الفاخر، كان بيتاً واسعاً من طابقين، وله فناء خلفي حيث يوجد مكان للشواء وفسحة للّعب. والدها يأخذ بيدها ليريها غرفتها الجديدة.. تصرخ بفرحة غامرة وهي تقارن بينها وبين غرفتها المتواضعة في الشقة التي نشأت بها في الوطن.
    مصاعب جمة تبدأ منذ اليوم الأول في المدرسة، ومشاكل تعلم اللغة الجديدة التي لا تنتهي.. سخرية زميلاتها من شعرها المجعد وحاجبيها الغليظين، وخجلها من اسمها العربي.
    كفاح والديها لرفع معنوياتها، وجهودهما المضنية لإقناعها بالتمسك بهويتها ودينها.
    كفاحها المستمر لتعويض معاناتها بالاجتهاد في الدراسة، وتفوقها المستمر بمساعدة والديها.
    تخرّجها من الجامعة بامتياز، وغيرة زملائها التي تفطر قلوبهم.
    لحظة الوداع التي لم تكن في الحسبان، وشبح الموت يختطف أمها ويلقي بظلاله الكئيبة على الدنيا كلها.
    لم يعد شيء في حياتها على حاله، ولم تعد راغبة في الخروج من أزمتها.
    اسودت الدنيا في عينيها.. أصبح العمل مملاً، والأصدقاء تافهون، وأبوها عاجز عن فهمها.
    لا شيء يستحق الاهتمام، ولا شيء قابل للتغيير.. الحياة خالية من الجمال، ومن الحب، وحتى من العقل.
    لا حل إلا بالتمرد على هذا السخف، سترفض كل شيء، ولن يقف أحد في طريقها.
    نزعت حجابها في حركة استعراضية، وتحدّت والدها في أن يعيده إلى رأسها.
    "ملابس قصيرة وفاضحة".. إنها تفي بالغرض جيداً، فهي خير تعبير على حريتها.
    "تعالى يا جاك.. انظر إلى مفاتني جيداً، ولا تتردد في دعوتي على العشاء".. ستبدأ حياتها الآن على طريقتها، وستفعل كل ما يحلو لها.
    لم تعد مقاطعة والدها كافية، فمجرد تدخله بالتساؤل عن أسباب غيابها أصبح أمراً لا يحتمل.. حسناً، لعله لا يعرف "أنها حرة"، وأن قوانين هذه البلاد التي اختار العيش فيها بنفسه تكفل لها هذا الحق.. لـمَ لا تشرح له ذلك إذن.. عسى أن يفهم, وبطريقتها الخاصة طبعاً؟
    ولكن.. يبدو أن ذلك ليس كافياً، فهو عاجز عن الفهم. حسناً.. ولماذا الانتظار، فهي ليست مضطرة للمزيد من الصبر.
    إنها تعمل وتكسب رزقها بنفسها، وقد تخطت السن القانوني منذ سنوات. لا شيء أسهل من الخروج إذن، فصديقها سيرحب بالفكرة كثيراً.
    تتخطى بسرعة لقطة خروجها الاستعراضي من البيت وهي تخبره بأنها ذاهبة إلى جاك. لا تريد حتى أن تتذكر هذا المشهد، وخصوصاً نظرات أبيها الذي ألجمته المفاجأة عن الكلام.
    أجهشت بالبكاء مرة أخرى، وبدأت تصرخ عالياً: "أين أنت يا أبت؟.. أين أنت يا أمي؟.. سامحوني أرجوكم"..
    ارتمت على الأرض ومنحت نفسها وقتاً كافياً للنحيب والبكاء، ثم نهضت وقد التمعت في ذهنها فكرة مباغتة. أخرجت دفتر رسائلها وانتزعت منه صفحة، ثم ارتمت على أريكتها. مسحت دموعها وهي تتنهد.. كتبت على رأس الصفحة: "رسالة إلى أبي العزيز"، وعنونتها بعبارة: "هل تسامحني؟".. ثم كتبت تحتها:

    أبي العزيز،
    ليتك تكون معي في هذه اللحظة لترى ما حلّ بي.. فقد انتهى أخيراً حلمي الوردي، وصحوتُ على مصيبتي لأرى ما اقترفَت يداي.
    لا أدري ما أقول لك، فهذا موقف تُغني فيه العبَرة عن مئات الكلمات، وليتك بجانبي الآن لأسكب أنهار دموعي على كتفك الذي طالما حلمت بأن أرتمي عليه.

    عقلي بات منهكاً، ولم يعد قادراً على التمييز بين الخطأ والصواب، ولكنه لم ينسَ بعدُ الأسباب التي دفعتني للسير في هذا الطريق.
    لقد كنتُ تائهةً يا أبت.. مراهِقةً تسعى لإثبات وجودها، ولما بدأتْ بتكوين هويتها، فقدتْ أمها، وفقدتْ معها الحبل السُرّي الذي كان يربطها بالحياة.

    كنتُ كطفلة صغيرة تتشبث بيد أمها لتقطع معها عرض الشارع، ثم لم تلبث أن وجدت نفسها فجأة وحيدة وسط سيل هادر من السيارات.. لم أكن مستعدة لذلك، ولم تُعِدّ العدة أنت وأمي من قبل تحسّباً لمثل هذا الموقف.
    لقد زرعتما فيّ التواكل مذ وطئتْ قدماي هذه الأرض الغريبة، فكنتُ أعتمد عليكما في كل شيء، وعندما فقدتُ أمي بات علي أن أتحول إلى امرأة ناضجة، وأن أُسقط كل نقاط ضعفي في لحظة واحدة، حتى إذا فشلتُ في ذلك، حسبتَه تقصيراً مني، ولم أكن لأتقبل منك هذه الإهانة.

    أبي العظيم،
    أعلم جيداً أنك كنتَ حريصاً على تربيتي وتهذيب أخلاقي، وأنك بذلك الكثير من الجهد لتنزع عن قلبي وحشة الغربة في هذه البلاد، ولكنك لم تلتفت يوماً إلى أن البيئة والزمان قد تغيرا عما اعتدتَ عليه، وأن نقل تجربتك إليّ دون تعديل قد يضر أكثر مما ينفع.
    نعم، أعترف بأنك أجهدت نفسك لكي أحفظ أكبر قدر من كتاب الله، وقد نجحت.. ولكنك لم تفكر يوماً بأن تعلمني روح هذا الكتاب، حتى نسيتُه.
    أعترف أيضاً بأنك تعبت كثيراً لتعوّدني على الصلاة في وقتها، وقد فعلت.. ولكنك لم تلاحظ أنك لم تزد على تعليمي بضع حركات وكلمات أؤديها كل صباح ومساء، دون أن تلفت نظري يوماً إلى السر الروحاني الذي كان عليه أن أستحضره في كل صلاة، حتى تركتُها دون أن أشعر بأني فقدت شيئاً.
    كما أعترف لك يا أبت بأنك بذلت الكثير لتحافظ على الحجاب فوق رأسي، وقد أفلحت.. ولكنك لم تنتبه يوماً إلى أن هذا الحجاب لم يزد عندي على قطعة قماش أغطي بها رأسي لأمتاز عن بقية الناس، وأنه بات شعاراً يجب أن أتشبث به لأحافظ على هويتي من الذوبان، ولم يخطر ببالك أنه قد شُرع ليحفظ كرامتي من الامتهان، وليُبرز ما أكون به نداً للرجل من إنسانية دون أن يطيح بنظره إلى جسدي، حتى شعرتُ بأنه يزيد من حدة التمييز تجاهي، ويجبرني على التعلق بهوية تكاد أن تبلى في أعماق ذاكرتي البعيدة، فلما اتسعت الهوة بيني وبينك، وبدأتُ البحث عن رجل آخر يعيد إليّ الشعور بأنوثتي، قررتُ أن أرمي هذا الحجاب.


    أبي الحبيب،
    لم يخالجني الشك يوماً في حبك لي، ولم أكن لأصدق نفسي عندما ادعيتُ عكس ذلك، فقد كانت كل خلية في جسدي تكذبني، ولكن عجزك عن احتواء جنوني هو الذي خيّل إليّ ما أشتهي من أسباب تكفي لتبرير القطيعة، وعندما اكتملت الكذبة في ذهني صدّقـتُها، وصنعتُ منها سلاحاً أشهره في وجهك كلما دعت الحاجة. حتى إذا عجزتُ عن نيل مرادي، رفعتُ صوتي وسكبتُ دموعي، وأقمتُ عليك الدنيا لأنتقم لنفسي.
    لقد كان كلانا في غنى عن ذلك يا أبت، فلو أنك تنازلت يوماً للتفكير بالمنطق الذي يعمل به عقلي لأرحت نفسك وأرحتني، ولكنك أصررت على أن تبارزني بمنطقك الذي لم تقدر على إقناعي به، فإذا انفجرتُ في وجهك لزمتَ الصمت الذي يأكل قلبك ويزيد جنوني.
    هكذا مرت أيامنا بين الجفاء وسوء الفهم، وهكذا تطور الأمر من محاولة إثبات للذات إلى فضيحة. ثم لم يبذل أحد منا جهده للتقريب، بل مضينا في تجرع آلامنا لنكتوي بها، ونلوم بعضنا على الجحيم الذي صنعناه بأيدينا. وعندما وجدتُ الطريق مسدوداً، لم أجد بداً من التحدي، فقررت الخروج، وكانت مفاجأتي كبيرة عندما تركتني وشأني، فما كان من شيء أحب إلي من أن تقف في وجهي، وتُسقط قناع التمرد الذي كنتُ أستر به عورات ضعفي..
    صفعة واحدة يا أبت كانت ستفي بالغرض، وستفتح عينيّ على الكذبة التي صنعها صمتك أمام جنوني.

    واليوم..
    أجد نفسي وحيدة يا أبت، كورقة خريف تصارع الريح على غصن يابس.. أشعر بالبرد والوحدة.. أشعر بالتفاهة، بالصغار، وبكل العيوب التي كنتُ أسترها ببكائي وجنون صراخي.
    هاقد سقطت تلك الغشاوة التي أعمت عيوني، ولم يعد لدي ما أخفيه عنك وعن نفسي، أريد أن أعترف لك يا أبت.. أن أبوح لك بكل شيء..
    أريد أن أعود إليك.. ليس لأرتمي في أحضانك، ولا لتقبّل رأسي وتمسح دموعي، بل لتصفعني على وجهي، وتُخرج الشرر من عينيّ..

    لا أدري إن كنتَ ستصفح عني بعد كل ما فعلتُه بك وبنفسي، بل لست أدري إن كنتَ كما تركتك بصحة وعافية، ولكني لم أعد قادرة على الكتمان أكثر من هذا، كما لا أجرؤ على مهاتفتك حياءً منك، ولهذا كتبتُ لك عسى أن يحنّ قلبك عليّ وتقبل عودتي.
    سأنتظر ردك يا أبت بفارغ الصبر، فأرجو ألا تطيل عليّ الانتظار.
    ابنتك النادمة




    ختمت الفتاة رسالتها، وضعتها في ظرف بريدي وألصقت عليها طابعاً، ثم كتبت العنوان وهي تمسح دموعها.
    أعادت النظر إلى وجهها في المرآة، وقالت لنفسها: لن أتأخر عليك يا أبتِ.. غداً سأرسل الرسالة.

    **************

    [/size]
    نور الاسلام
    نور الاسلام
    نائب صاحب الموقع
    نائب صاحب الموقع


    ذكر عدد الرسائل : 560
    البلد : maroc
    الوظيفة : electronique
    اسم الدولة : ثلاثية: صباح دافئ في شتاء نيويورك Female49
    احترامك لقوانين المنتدى : ثلاثية: صباح دافئ في شتاء نيويورك 69583210
    تاريخ التسجيل : 19/08/2007

    ثلاثية: صباح دافئ في شتاء نيويورك Empty رد: ثلاثية: صباح دافئ في شتاء نيويورك

    مُساهمة من طرف نور الاسلام الثلاثاء 22 يناير 2008 - 18:59


    (3)


    في صباح اليوم التالي، استيقظ الأب باكراً، التهم فطوره على عجل، وخرج مسرعاً إلى سيارته التي أقلته إلى وسط المدينة، أوقفها في أحد المواقف العامة، وبدأ يمشي الهوينى صوب مركز البريد. كان يضع يديه في جيبي المعطف، ويلف وجهه بوشاح من الصوف يقيه صقيع نيويورك القارس، بينما يفكر شارداً في ابنته وما يُحتمل أن تكون عليه في هذه اللحظة، ولم ينتبه لما حوله إلا وهو أمام مدخل مركز البريد.
    وضع يده على مقبض الباب الزجاجي ليهمّ بالدخول، فسبقته إلى فتحه فتاة كانت إلى جانبه وقالت: تفضل يا عم!
    شكرها وولج إلى الداخل مسرعاً في الهرب من الطقس البارد، ثم توقف فجأة وكأنه تذكر شيئاً.. التفت إلى الخلف ونظر إلى الفتاة التي دخلت بعده، تأمل وجهها جيداً وهي تنزع عنه وشاحها الأحمر ببطء.. مدّ يده إلى وشاحه ليكشف عن شفتيه المرتجفتين.. وتوقف الزمن!

    تجمد كلاهما في مكانه.. يدٌ على الوشاح، ويدٌ أخرى تمسك ظرفاً عليه طابع بريدي.
    تجمدت الحركة من حولهما، وتوجهت كل الأنظار إلى ما يشبه تمثالين من الشمع تخرج من أفواههما أنفاس حارة تأخذ شكل البخار.
    مرت ثوان طويلة كأنها ساعات، والهمسات بدأت تعلو متسائلة عن تفسير هذا المشهد.
    نطق التمثالان في لحظة واحدة بلغة لا يعرفها أهل البلد، ولكنها بدت للجميع مفهومة بالبداهة.
    تعانقا، وتبادلا القُبلَ ومسْحَ الدموع. علا بكاؤهما، وغلب عليه صوت التصفيق الحار الذي ضجت به أروقة البناء.
    التفّت السيدات "النيويوركيات" حولهما ليعبّرن عن مشاعرهن حول هذا المشهد الدافئ وغير المألوف، وأخذ الأب العجوز ابنته بين ذراعيه وهمّ معها بالخروج وهما يردّان التحية والابتسامات الممزوجة بالدموع.
    التقطت عجوز أنيقة ظرفين بريديين من الأرض، وصاحت بهما. التفتا معاً وقالا بصوت واحد: "لا حاجة لي به"، وهرعت إليها السيدات اللاتي أُخذن بالمشهد يطلبن منها فتح الظرفين وقراءة الرسائل، ولكن لم يلبث أن خاب ظن الجميع عندما قالت: أوه.. ما هذه اللغة الغريبة!

    على بُعد جادّتين، استقل الأب وابنته سيارة العائلة، وخرجا بها من الموقف العمومي. رفعت الفتاة وشاحها عن رقبتها وغطّت به شعرها.. نظر إليها أبوها بطرف عينيه، وتبادلا ابتسامة واحدة.
    تفرقت السيدات في مركز البريد بين المارة بحثاً عن شخص يمكنه قراءة تلك اللغة الغريبة، وسرعان ما رفع طالب جامعي يده قائلاً: نعم، أنا يمكنني قراءتها لكُنّ.
    جلس الشاب على أحد مقاعد الانتظار، والتفّت حوله عشرات السيدات ليرهفن السمع إلى ترجمة فورية للرسالتين.
    سارعت مراسلة تلفزيونية صادف تواجدها في المكان لتصوير هذا الحدث المجاني، ونقلت إحدى المحطات المحلية هذا السبق الصحفي حياً على الهواء، مع شهادات السيدات اللاتي قضين بضع ساعات في البكاء والثرثرة.
    أخيراً.. وقفت المراسلة أمام الكاميرا لتدلي بشهادتها:
    "وهكذا أعزائي المشاهدين.. نقلنا لكم- وحصرياً على شاشتنا- إحدى أكثر القصص الإنسانية روعة في هذه المدينة.. حقاً إنه يوم رائع يختلط فيه برد الشتاء مع دفء الحب والعلاقات العائلية التي أصبحنا نفتقدها..
    هذه ليزا من مركز البريد، وسط المدينة".

    في المساء، اجتمع الملايين من "النيويوركيين" كعادتهم لمتابعة حدث الساعة، فيما كانت مقدمة البرنامج تدير باقتدار حواراً ساخناً بين ثلاثة من أساتذة الجامعات في ولايات مختلفة عبر الأقمار الصناعية، وتنوع النقاش بين حقوق القناة في اقتحام حرية الأفراد بإذاعة الرسالتين على الملأ، وبين قضايا أخرى ما زالت تلقى اهتماماً كمشكلة اندماج الأقليات، وحوار الأجيال، وحقوق الأطفال على الآباء..
    في الوقت نفسه، وفي بيت هادئ بإحدى ضواحي نيويورك، كان رجل عجوز يضم ابنته الشابة تحت ذراعه وهما يلتحفان غطاء من الصوف أمام المدفأة ويتابعان تفاصيل الحدث.
    رشف العجوز ما تبقى من كأس الشاي الذي في يده ثم أطفأ التلفاز عن بعد.. تنهد وقال بصوت خافت: أظن أنك كنت محقة يا ابنتي.
    همست الفتاة بعد دقيقة صمت: وأنت كذلك يا أبي.
    مرت دقيقة صمت أخرى، وخمدت نار المدفأة بعد أن نفد وقودها.. سألت الفتاة أباها: أما زلت تفضل النوم على هذه الأريكة يا بابا؟
    أجاب مبتسماً: نعم يا حبيبتي.
    مدت الفتاة يدها بهدوء إلى المصباح الذي بجانبها وقطعت عنه الكهرباء.. وساد صمت مطبق.


    النهاية

      الوقت/التاريخ الآن هو السبت 23 نوفمبر 2024 - 1:17